كلمة البطريرك يوحنا العاشر مجمع الكنيسة الروسيّة…



2017-12-02

كلمة البطريرك يوحنا العاشر
مجمع الكنيسة الروسية في موسكو، 

٢ كانون الأول ٢٠١٧

صاحب القداسة البطريرك كيريل بطريرك موسكو وسائر الروسيا،

أصحاب القداسة والغبطة،

أنطاكية، الكنيسة التي دعي فيها التلاميذ مسيحيين أولاً، تعانق الروسيا المقدسة في هذا اليوم المبارك الذي تحتفل فيه بالذكرى المئوية الأولى لمجمع موسكو المحلي الذي أعاد منصب البطريرك إلى الكنيسة الروسية وأطلق مجدداً المجمعية في هذه الكنيسة بعد انقطاع استمر لثلاثة قرون. وهي إذ تشارك اليوم شقيقتها الكنيسة الروسية فرحتها، تستشفع القديس تيخن المعترف، الذي اختاره الروح القدس بطريركاً، بواسطة أعضاء المجمع المحلي ليرعى هذه الكنيسة ويقودها في زمن الإلحاد والاضطهاد. وهي لا تنسى أيضاً مساهمات الكنيسة الروسية في مطلع القرن الماضي من أجل دعم أبناء الكنيسة الأنطاكية وتثبيتهم في أرضهم وتأمين التعليم والطبابة المجانية للفقراء من بينهم. وهي تذكر أيضاً بكثير من الامتنان فضل هذه الكنيسة في تنشئة الرعاة وبناء الكنائس والمؤسسات في أنطاكية. وهي تقدّر بخاصة دور البطريرك تيخن العظيم في تأسيس الأبرشية الأنطاكية في أميركا، هو الذي على يده سيم أول مطران على الأرض الأمريكية، عنيتُ القديس رفائيل أسقف بروكلين، الأنطاكي الذي درس في القسطنطينية وفي روسيا، والذي رعى الأرثوذكس في القارة الأميركية ولاسيما الناطقين منهم باللغة العربية.

وأنطاكية، تستذكر في هذا اليوم أيضاً العلاقة العضوية التي ربطتها بالكنيسة الروسية، والتي بدأت مع القديس ميخائيل السوري، واستمرت مع البطريرك يواكيم الذي أسهم في انتخاب البطريرك أيوب كأول بطريرك على الكنيسة الروسية. وقد تعمقت مع البطريرك غريغوريوس (الرابع) الذي زار الكنيسة الروسية وترأس الاحتفالات بمناسبة مرور ثلاث مئة عام على اعتلاء أسرة رومانوف عرش روسيا حيث سام أسقفاً الذي صار فيما بعد البطريرك الكسي. ولم تَقوَ صعوبات التاريخ ولا قسوة الاضطهاد الذي عاشته الكنيسة الروسية على هذه العلاقة الأخوية، فشارك البطريرك ألكسندروس (الثالث) في المجمع المحلي الذي انتخب البطريرك الكسي. وشارك البطريرك ثيودوسيوس (السادس) في اليوبيل الذهبي لهذا البطريرك أيضاً. وظلت الكنيسة الأنطاكية تحمل الروسيا في صلواتها طيلة فترة الاضطهاد الذي عانى منه الشعب الروسي وبقيت على يقين أن لا أحد يستطيع أن يسلخ المسيح عن تراب الروسيا. وقد بشر البطريرك الياس (الرابع) والوفد الذي رافقه إلى موسكو في العام ١٩٧٢ الأنطاكيين والعالم "أنْ لا أبقى من المسيح في روسيا...وأن المسيح بعد أن عمد شعب روسيا لا يزال هو يعمدها الى اليوم ...وأنه لن يطول احتجاب الرب في النفوس. وأنه سوف يتكلم اللسان عنه ويكتب القلم مترجماً الحياة الروحية الكامنة في النفوس آداباً وفنوناً". وفرح البطريرك إغناطيوس (الرابع) بمشاركته في الذكرى الألفية لمعمودية الروس معتبراً " أن ألف سنة من الصلاة تَمْثُلُ اليوم أمامنا صرحاً روحياً شامخاً يصل الارض بالسماء ويمجد خالق الكون والإنسان".

أصحاب الغبطة والقداسة،

لقد مرت روسيا "بليل مظلم وطويل" كما استشعر البطريرك القديس تيخن المعترف فور انتخابه في العام ١٩١٧. لكن صلوات الشعب الروسي التي استقامت كالبخور، وعذابات المعترفين، ودماء الشهداء، وإخلاص الأجداد والجدات والآباء والأمهات لإيمانهم، وجرأتهم في نقل الإيمان إلى أبنائهم وفي الشهادة للمسيح في زمن الإلحاد القاسي، دحرجت الحجر عن القبر الذي حاولت الشيوعية أن تضع فيه المسيح. وأثبت أبناء روسيا "الذين أتوا من المحنة الشديدة، وغسلوا حللهم وبيضوها بدم الحمل" (رؤيا 7؛15)، بتضحياتهم وأوجاعهم، للعالم أجمع أن "المجتمعات لا يمكن بناؤها بالاستقلال عن الله".  وكم كان البطريرك ألكسي (الثاني) على حق عندما شدد أنه " ليس من نظام اجتماعي أو دولة أو أمة خلقها الله إلى الأبد، ولكن البشر خلقهم الله إلى الأبد". وكم علينا اليوم أن نتنبه إلى المحاولات التي ترمي إلى إبعاد مجتمعاتنا عن الله وعن الكنيسة، وتلك التي تدمر حرية الإنسان وكرامته وتستعبده لخدمة المجتمع الاستهلاكي، أو تلك التي تحاول أن تقسم الكنيسة الواحدة إلى كنائس عرقية متناحرة.

أيها الإخوة،

لطالما حملت البطريركيات الأرثوذكسية مآسي شعوبها على مر التاريخ. وقد اتخذ ألمنا الواحد منذ مطلع القرن الماضي أسماء متعددة ومختلفة، فبعضنا تألم من التطهير العرقي والطرد من أرضه وأرض أجداده، والبعض من صراع القوميات والحضارات والبعض الآخر من الإلحاد. غير أن  البلدان التي تتألف منها الكنيسة الأنطاكية ما زالت حتى الآن تعاني من صراع الآخرين على أرضها، هذا الصراع الذي يتجدد بين الحين والآخر ويأخذ وجوهاً مختلفة. فقد عانى لبنان أولاً من ويلات حروب الآخرين على أرضه منذ مطلع السبعينات وها هي الآن مصالح كبار هذا العالم تسعى لأن تزجه في أتون الصراع مجدداً. وما زالت سوريا ترزح تحت وطأة الحرب المدمرة التي شنها عليها الإرهاب المتوحش المستورد إليها من الخارج بأموال الغرباء. هذا الإرهاب الذي دمر الحجر وقتل البشر وشرد أبناء الوطن على دروب النزوح والهجرة. وينسحب الأمر نفسه على العراق حيث ساهمت الحروب المتتالية في تضاؤل عدد المسيحيين في هذا البلد.

لن أطيل في وصف الواقع المرير الذي يعاني منه أبناء الشعب السوري بخاصة في هذه الأيام. فأنتم تعرفون هذا الواقع من خلال وسائل الإعلام التي لا تنفك تنقل أخبار الفظائع التي مارسها ويمارسها الإرهابيون بحق هذا الشعب الآمن، الذي يرزح أيضاً تحت وطأة حصار اقتصادي مفروض عليه، يضاهي بقسوته جرائم الإبادة والتطهير العرقي التي يمارسها الإرهابيون. ولعل انحسار الإرهاب الذي أخذنا نشهده بعد أن انخرطت القوات الروسية مشكورة بمحاربته وبروز ملامح الحل السلمي يحتم علينا ككنيسة أرثوذكسية واحدة أن نتعاون ونبذل كل الجهود الممكنة من أجل الحفاظ على وحدة البلد، ومن أجل عودة وتثبيت المسيحيين السوريين في أرضهم، وبناء ما تهدم من كنائس وأديرة، وتأمين فرص العمل ومستلزمات العيش الكريم من طعام وطبابة وتعليم لهؤلاء الإخوة الذين قست عليهم الأيام، لكي يبقى المسيح قائماً في الشرق.

صاحب القداسة البطريرك كيريل،

أيها الإخوة الأحباء،

لقد بدأ ليل الكنيسة الأنطاكية بخطف المطران بولس (يازجي) والمطران يوحنا (إبراهيم) كما بدأ ليل الكنيسة الروسية باغتيال المتقدم في الكهنة يوحنا (خوشروف)، وقد ظن الخاطفون أنهم بخطف هذا المطران يرهبون الكنيسة ويخطفون صوتها. إلا أن صوت الكنيسة الأنطاكية، صوت الحق ما زال يدوي مطالباً بالعدل والسلام والكرامة للشعب السوري. وهي لم تبخل بتقديم الشهداء من علمانيين وكهنة كأمثال الأب فادي (الحداد) والأب باسيليوس (نصار). فدماء هؤلاء الشهداء الممزوجة بتنهدات المخطوفين ودموع الأمهات وصلوات المؤمنين هي التي ستصنع مستقبل سوريا ومجد المسيحيين فيها وفي كل المدى الأنطاكي. 

نثمّن عالياً، يا صاحب القداسة، الدور الذي اطلعتم وتطلعون به في وقوفكم إلى جانب إخوتكم في كنيسة أنطاكية. نقدر فيكم هذه الهمة الرسولية والتي زرعتموها ونميتموها في قلوب شعبكم الذي وقف وبكل قواه إلى جانب إخوته في كنيسة أنطاكية. نقدر مواقفكم بخصوص الأزمة في بلادنا ونكبر مشاعركم ومساعيكم الحثيثة والنبيلة ومساعداتكم الإنسانية والتي جاءت استمراراً وتتويجاً لتاريخية وأصالة العلاقة الروسية الأنطاكية. 

كما نقدر عالياً الجهود الروسية للقضاء على الإرهاب ولدفع مسيرة السلام في سوريا والحفاظ على استقرار لبنان ونخص بالشكر فخامة الرئيس بوتين وكل معاونيه ونقدر عالياً عطاءات روسيا جيشاً وقيادة وشعباً في الدفاع عن أرضنا وتدعيم الجهود الرامية إلى توطيد منطق الحوار وترسيخ المسيحيين ومساندتهم في أرضهم مع غيرهِم عبر السبيل القويم والمتمثل في إحلال السلام وإيجاد حل سلمي-سياسي لما يجري في منطقتنا.     

أيها الأخ الكريم،

لا شيء يضاهي فرح أنطاكية اليوم فيما هي تشارك في هذا الاحتفال البهي الذي أسس له الشهداء والمعترفون الذين شاركوا في مجمع موسكو المحلي في العام 1917، والذي تبقى أعماله ذخراً للأرثوذكسية الجامعة. ونحن، إذ نطلب شفاعة هؤلاء اليوم من أجل الروسيا وكنيستها ومن أجل أنطاكية وعودة المخطوفين من أبنائها وإحلال السلام في ربوعها، نصلي أيضاً من أن أجل أن نتمكن معاً، ككنيسة أرثوذكسية، من مواجهة التحديات الجديدة التي تعيشها كنائسنا وتلك التي تطرحها الحياة المعاصرة على مجتمعاتنا بقلب واحد وعزم واحد.

لقد شكل "انبعاث روسيا المقدسة هدية من السماء" إلى عالمنا اليوم. ألا أعطانا الله بصلوات وشفاعة الشهداء الجدد والمعترفين والنساك والرعاة الذين لمعوا في روسيا وفي كل العالم الأرثوذكسي خلال سنوات الاضطهاد أن نشهد لفرح قيامته.

 

١- مذكور في مقال بعنوان " المسيح في روسيا"، ملحق النهار الأسبوعي،  الأحد ٦ شباط ١٩٧٢.

٢- كلمة البطريرك إغناطيوس أمام المجمع الروسي مذكور في كتاب "الذكرة الإلفية لمعمودية الروس". 

٣- وارد في كلمة البطريرك تيخن بعيد تنصيبه كبطريرك على الروسيا في العام ١٩١٧.

٤- العبارة من خطاب بعنوان "الشهادة للإيمان الأرثوذكسي في زمن الإلحاد" ألقاه البطريرك كيرل في رومانيا في تشرين الأول ٢٠١٧.

٥- مذكور في جريدة النهار، تاريخ 5 تشرين  الاول ١٩٩١.

٦- أول كاهن تم اغتياله خلال انعقاد المجمع  الروسي العام، وتبعه اغتيال رئيس المجمع الفخري المطران فلاديمير، مطران كييف,