فأين العالم كلّه من شموعِ الراهبات ومنْ رسالة…



2013-12-25

p1 كلمة البطريرك يوحنا العاشر في الصلاة من أجل سوريا

الكاتدرائية المريمية بدمشق، الميلاد المجيد 2013





أيها الأحبة:
يوافينا في هذه الأيام سلام الخليقة كلِّها، السيدُ المسيح. وهو سلامنا وبَلسم جراح إنسان هذا المشرق. يوافينا لندفن بميلاده أحزان السنة الماضية ولنفتتح برجائه مسيرة السنة القادمة. يوافينا مانحاً إيانا سلامه. وسلامه هذا ضمانةٌ لسلامنا وطناً وكنيسةً وإنساناً.

نقولُ لشعبنا المؤمنِ في هذه الديارِ. نحنُ سفراءُ سلامٍ وسفراءُ محبةٍ لكننا في الوقت نفسهِ جذرٌ ضاربٌ في عمق تاريخ وجغرافية هذه الأرض. سلاحُنا وربيعُنا هو لُقيا الآخر وقبولُه والنهوضُ معه بأعباءِ الدنيا. نحن سفراءُ سلامٍ لكننا لسنا مكسرَ عصا في الوقت نفسِه. نحن سفراءُ سلامٍ ومحبةٍ وتلاقٍ. سلاحُنا سلامُنا، ورجاؤنا ورسالتنا أخوّةٌ حقةٌ مع من أسلَمْنا وإيّاهم أمرنا لله العليِّ خالقِ السماءِ والأرض. وإن أجراسَ كنائسنا التي علّقت في غابر الأيام ستظل تُقرع بقوةٍ وعنفوان رغم مكائد الزمان وستظلُّ تسمع نبض محبتنا للآخر والجارِ والقريبِ. وهي نفسُها ستعلنُ للدنيا برمّتها أن الرُّسل مرّوا من هنا وأن أتْرابَهم سيكونون رسُلَ محبةٍ وجذراً ضارباً لا تُنيخهُ الأيامُ الصعبةُ.

إنّ الكنيسة التي قدّمت المعترفين من أمثال يوحنا الدمشقي والتي أبزغتْ إلى النور الشهداءَ من أمثال الخوري يوسف مهنا حداد، أي يوسف الدمشقي، لم تبخلْ يوماً ولن تبخل بأن تكون سفيرة محبةٍ وسلامٍ. وهي ذاتها التي قدمتْ الكثيرين قرباناً على مذبح الوطن والكنيسة والإنسان. أن تكون سفير سلامٍ لا يعني أبداً أن تكون سفيرَ استسلامٍ. نحن لا نستسلم أبداً في وجه مَن يستبيح المقدسات ولن نسكت أبداً على خطف مطارنتنا يوحنا وبولس والكهنةِ وأيِّ بريءٍ في هذه الأرض.  لن نسكت أبداً في وجه من احتجزَ صوتَ سلامِنا- أعني راهبات معلولا وأيتامها. نحن مدعوون أن نُسمع الصوت عالياً، وطناً وانتشاراً، في وجه من أراد اختطاف صوت سلامنا. لم تحمل راهبات معلولا ويتاماها سوى شموعِ ابتهالٍ ولم يحمل الإخوةُ المطارنة سوى صوتِ السلامِ. فأين العالم كلّه من شموعِ الراهبات ومنْ رسالة المطارنةِ السلامية!

وَمَنْ الكنيسةِ المريميّةِ في دمشق، منْ جارةِ الجامعِ الأمويّ وربيبةِ الطريقِ المستقيمِ،
St-Joseph-Damascen أقولُ للعَالَمِ أجْمعَ،

نَحْنُ مَسيحييّ هذِه البلادِ ومُسلميْها،

خيرُ منْ يتكلّمُ عنْ أُخوّةٍ ووحْدَةِ حالٍ فيْ السّراءِ والضّرّاءِ. وَهذهِ الأُخُوَّةُ دمَغَتْها يَدُ الرسولِ الكريمِ في العُهدَةِ النّبويّةِ يومَ طَلَبَ منَ الفاتحينَ حُسنَ مُعاملةِ النّصارى، وأثْبَتَتْها وتُثْبِتُها تَعاليمُ السيّدِ المَسيحِ الذيْ أوْصى بِمحَبّةِ الجَارِ والقريْبِ. وهُنا أسْمحُ لنفسِي أنْ أتَأمّلَ وإياكُمْ، فيْ أوّلِ الرّموزِ المسيحيّةِ وأكْثَرِها انتشاراً، أعْنيْ الصّليبَ. ومِمّا يحملُ الصّليبُ منْ معانٍ ورُموزَ هوَ أنّ لهُ خشبتَينِ، شاقوليةً وأفقيةً. الشاقوليّةُ تدُلُّ على علاقَتِنا، نَحْنُ البشَرَ، بربِّ العَالمين، قاطنِ السّماءِ وسيّدِ الأرْضِ. والأفقيَّةُ تدلُّ على عَلاقَتِنا بمنْ حولَنا، بالآخَرِ الذيْ حَولَنا مَسيحيّاً كانَ أوْ مُسلِماً. ومنْ هنا أَسمحُ لِنفْسي وأقُولُ، لا يَستقِيمُ صليْبَنا نَحنُ المَسيحيين، إلا بِخشبَتَيْهِ، أيْ بِحسنِ العلاقةِ معَ الخالقِ، تَباركَ وتَمجّدَ، وبِطيْبِ العلاقَةِ وسمُوّها مَعَ إخوَتِنا في البشريّة، أيْ معَ القريبِ كائناً مَنْ كانَ. نَحنُ ، كَمسيحيّيْن معَ سائرِ أطيافِ هذا البلَدْ عجيْنَةٌ انجبَلتْ بِحُبِّ الخالقِ تعالى واخْتمَرَتْ بالعيشِ المشتركِ والأُخوّةِ فنَضَجَتْ قُرباناً مَقبولاً على مَذبحِ حبِّ اللهِ والوطنِ . نحنُ، أبناءَ هذه الأرضِ المبارَكَةِ، ساقيةٌ اندفَقَتْ منْ جبلِ الرحمةِ الإلهيِّ واجتازَتْ سهولَ هذهِ الأرضِ وعبرَتْ أخاديْدَ التاريخِ السحيقِ واجتمَعَتْ إلى بُحيرةٍ واحدةٍ يَنعكسُ على سَطحِها رونقُ الجلالِ الربّانيِّ.

لقد مسحَنا ربُّ العالمين، نحنُ مسيحيي هذه البلادِ، وإخوتَنا المسلمينَ بنفحةٍ من روحهِ الإلهيةِ. لقد ارتضانا هنا من غابرِ الأيامِ. ومنْ هنا، من قلبِ بلادِ الشامِ، ومن أنطاكيةَ تحديداً خرجَ مصطلحُ "مسيحيين" ليغزو المعمورةَ كلَّها. بلادُ الشام هي من سربلَ أتباعَ الناصريِّ بلقبِ "مسيحيينَ" وهي التي صدَّرتْ إيمانَه إلى أقاصي الأرضِ. ومنْ على أسوارِ دمشقَ انطلقَ بولسُ الرسولُ ليكسر أسوارَ عَتْمَةِ الأممِ كلِّها مبشّراً برسولِ المحبّةِ والسَّلامِ. ومن جوارِ فُراتِ جزيرَتِنا السوريةِ، خرجَ القديسُ أفرام، فراتُ الكنيسة العقليُّ، لِيُطرِبَ الشعبَ المؤمنَ برحيقِ وعظِه وشعْرهِ المُلْهَم. ومنْ حمص، جارةِ العاصي، خرجَ رومانوسُ المرنّمُ، في القرن الخامس، ليكتبَ، ومنْ أنغام سوريا الطليّةِ، تسابيحَه الكنسيّةَ التي تمجّدُ ربَّ السمواتِ. وربُّ السمواتِ القديرُ سُرَّ وارْتَضى أنْ نتآخى مسلمينَ ومسيحيينَ في رحابِ سوريا، وشاءَ وأرادَ أن نزيِّنَ ثرى هذه البلادِ الطاهرةِ بأخوّةٍ لا تَفصِمُ عُراهَا ويلاتُ الأيّامِ ووعورةُ التاريخِ، لا بلْ تزيْدُها قُوةً ومَتانةً. قُلْتُها في طرطوسَ وأقولُها في دمشقَ. بينَ "النّحْنُ" و"الأنْتُمْ"، إخوتيْ المسلمينَ، تذوبُ الواوْ وتَختفي.

ويبقى "أنتمْ نحنُ" و"نحنُ أنتمْ". هذه الواوْ تذيبُها يدُ الرسولِ الكريمِ الذيْ أوصى الفاتحينَ في العُهدة النبويّةِ بِحُسنِ مُعامَلةِ النّصارى. تُذيبُها صفحاتُ التاريخِ المجيدِ ورُبوعُ سوريا الغاليةِ. يُذيبُها نضالٌ مشتركٌ لنرى سوريا مُكللةً بالغارِ. تُذيبُها ساحةُ المرجة التي تقدّستْ بأجسادِ أبطالٍ من أمثالْ، عبدِ الحميد الزهراوي ورفيق سلوّم، من شهداءِ السادسِ من أيار عام 1916، يذيبُها فارس بك الخوري الذي أبى الحماية من فرنسا وأهَّلَ بِها منْ مصلييِّ الجامعِ الأمويِّ. تُذيبها قلعةُ أروادَ التي ضمَّت بينَ ثناياها شكري القوتلي وفارس الخوري أيامَ الانتدابِ الفرنسيِّ. تُذيبُها يدُ سلطان باشا الأطرش التي وضعت حجرَ الأساسِ لكَنيسةِ القريّا في ستينيات القرن الماضي. يُذيبُها طُهرُ ثلجِ حرمونَ الناصعِ وثَرى الجولانِ الطاهرِ الذي سَقيناه دمنا سويةً سنة 1973. يُذيبُها البطريركُ الياس الرابع الذي أسمَعَ العالمَ أجمعَ في قمّة لاهور الإسلاميةِ سنةَ 1974 أن القدسَ الشريف قبلةُ المسلمينَ والمسيحيينَ على السّواءِ يذيبها فكرُ البطريرك إغناطيوس الرابع الذي رأى في الآخر غنىً وكنزاً لا يُسلب، ورأى في لُقيا الآخر خيرَ سبيلٍ لاكتشاف الذات البشرية والسموّ بالإنسان إلى المدارك العلويّة. أخوّتُنا وإياكم، أحبّتي المسلمين، لا تَصفُها صفحاتُ الكتبِ فحسب لا بل واقعٌ ملموسٌ معاشٌ.

وَمنْ هُنا وبرفقةِ هذه الوجوهِ النيّرةِ، أوجّه الشكرَ لكلّ منْ وقف وقفةَ تضامنٍ مع إنسانِ هذا المشرق المعذّبِ. أشكر أصحابَ السيادة ممثلي الكنائس الشقيقة وأصحاب السّماحة، وأحيي بشكلٍ خاص قداسة البابا فرنسيس، وأرفَعُ صلاتي، وإياكم جميعاً، إلىْ ربِّ السمواتِ والأرضِ وأقولُ: ربّ أعطِنا نحنُ السوريّينَ منْ سَلامِكَ الإلهيّ جَذْوةً تبرّدُ وتطفئُ قلُوباً مُستعرَةً وتَمسحُ دمُوعاً حارّةً. ربِّ ازرعْ في قُلوبِنا نَسيمَك العليلَ واغرِسْ في صدُورِنا رحيقَ محبّتِكَ لِنتذكّرَ دوْماً أنّ الدينَ للهِ وأنَّ الوطنَ للجميعِ وأنّهُ يَسموْ بمنْطقِ المحبّةِ والتّلاقي. ربِّ عزِّ القلوبَ التيْ اكتَوَتْ بفقدَانِ أحبّتِها. ربّ أعطِنا أن نرَى أخوَيْنا المطرانين بولسَ ويوحنّا وأخواتنا راهبات ويتامى معلولا وكلّ المخطوفينَ سالمينَ فيما بيْننَا. ربِّ علّمنا أنّ وجْه الآخرِ وأنّ الحوارَ معَهُ لخيرٌ مِنْ قرْعِ طبولِ الحرْبِ ضدّهُ.

ربِّ فقّهْنا وعلِّمْ الناسَ جَميعاً أنَّ الحوارَ والحلَّ السياسيَّ السلميَّ هُما السبيلُ الوحيدُ للوصولِ بسوريّا إلى ميناءِ الخلاصِ. ربِّ وحّدْ قُلوبَنا فيْ هذا البَلَدِ العزيزِ لنَحْفَظَ وحدةَ تُرابِه الطاهرِ مِنْ طبريّا جَولانه إلى رأسِ عيْنِ شمالِه ومنْ خابورِهِ وفُراتِه إلى حلَبَ الجريْحَةِ درّةِ تاجِ مجْدِهِ. وأَلْهِمِ القاصِيْ والدّانيْ أنْ يتعلّمَ منْ شُموخِ قاسيونَ أنَّ أبناءَ هذا البَلَدِ لا يَعْرفونَ إِلى المذَلّةِ طَريقاً وأنَّ جبيْنَهُم سَيَبْقى أشمَّ مَرفوعاً كَجَبيْنِ قاسيونَ الذيْ يَلْثُمُ الطّمَأنينةَ ويُعانِقُ الأمَلَ بالغدِ المُشرقِ.

أعطِنا ياربّ نورَ سلامِك الحق وباركْنا جميعاً واملأ نفوسَنا بِفيضِ خيريّتِك، تبارَكْتَ وتمجدتَ أبد الدهور، آمين.