رسالة صاحب القداسة رئيس أساقفة القسطنطينيّة…



رسالة صاحب القداسة رئيس أساقفة القسطنطينيّة البطريرك المسكونيّ برثلماوس الأوّل


صاحبَ الغبطة قداسةَ بطريركِ مدينة الله أنطاكيّة العظمى وسائر المشرق، الأخَ المحبوبَ جدًّا في المسيح الإله وشريكَنا في الخدمة السيّد يوحنّا. نتلو ألقابكم بكل فرحٍ مصافحين أخويًّا في الربّ وبحرارةٍ غبطتكم الجليلة.


بمشاعر التأثرّ والفرح والسرور الروحيّ تشارك اليوم كنيسةُ المسيح العظمى المقدّسة في القسطنطينيّة، الكرسيُّ الرسوليّ الكليّ القداسة، العرشُ البطريركيّ المسكونيّ، وشخصنا المتواضع، مشاركةً صلاتيّة وروحيّة، وفي الوقت عينه من خلال ممثّلينا مطراني فرنسا وبورصا السيّدين عمانوئيل وإلبيذوفورس الكليّي الطهر، بفرحِ كنيسةِ أنطاكية المقدّسةِ والقديمةِ في الكنائس، وهو فرح الكنيسة جمعاء.


في هذه الساعة الخيّرة، نرفع المجد والسبحَ مع سائر رؤساء الكهنة الإخوة في المسيح ومع ملء الكنيسة لمن يدبّر بعجائبه كنيستكم وشؤونكم، ودائمًا لكلّ ما هو موافق، الربِّ القدّوس، لأنّ العصا البطريركيّ يُسلّم إلى غبطتكم المحبوبة جدًّا لدينا، إيذانًا برعايتكم للشعب المؤمن المحبوب من الجميع، الذي رعاه عبر الأزمان أوّلاً رسلُ المخلّص القدّيسون، ثمّ سلسلةٌ ذهبيّة من بطاركة أنطاكيّة، مثل إغناطيوس حامل الإله، ومنهم الآباءُ العظماء ومعلّمي المسكونة والهاماتُ الروحيّة العظيمُ قدرها، وآخرها سلفكم مباشرة الدائم الذكر إغناطيوس الرابع.


إنّكم يا صاحب الغبطة، وبعد أن تدرّبتم واختُبرتم جيّدًا، أخذتم مبادئ الحياة الروحيّة في بستان السيّدة والدة الإله، في الجبل المقدّس آثوس، فتقدرون الآن أن تعينوا الذين تحت التجارب، عندما تأتزرون بمنشفة الخدمة والتجربة والمسؤوليّة والكرامة.


لقد قادتكم عناية الربّ إلى المهجر، حيث خدمتكم بنجاح وأثمرتم لسنواتٍ، والآن، وبمشيئته التي لا يستقصى أثرها، أُعدتم ثانيةً إلى دياركم، لكي تعانوا مع شعب الله وتُختبروا بالصعوبات، "حاسبًا عار المسيح غنىً أعظم من كنوز مصر" (عبرانيّين 11: 25).
وكما يعلّم البارّ مكاريوس المصريّ، "كثيرون أبرار في الظاهر يظنّ الناس أنّهم مسيحيّون، ولكن كفاءة المحترفين والخبراء تمتحن إن كان هؤلاء يملكون حقًا ختم الملك وإيقونته" (العظة 35، ΒΕΠΕΣ، 41، 320). فإنّ الدليل على أصالة ختم المسيح الملك يكون بالمشاركة في آلامه. لذلك يشهد الرسول بولس من خبرته قائلاً: "في أتعاب أكثر، وفي ضربات أسوأ بكثير" (2 كور 11: 23)، مريدًا بذلك أن يبيّن كيف عانى هو أكثر من الآخرين، وأنّه حمل الصليب مع المسيح أكثر منهم، وهكذا أنتم اليوم يا صاحب الغبطة، فبدون أن تسعَوا البتّة، وبدون تخطيط مسبق، انتخبتم بإلهام المعزّي، لكي تحملوا صليب رعاية الشعب وإرشاده، على مثال المسيح، وأنتم مدعوّون أن تشاركوا في آلامه وتجاربه أكثر من الجميع. أنتم أصبحتم الآن مشجّعَ الشعب والقبطان الحكيم، الذي سيوجّه سفينة الكنيسة. أنتم الراعي الصالح، الذي يبذل نفسه من أجل الخراف.


إنه حقيقةٌ أيّها الأخ الكليّ الطوبى، أن كنيسة أنطاكية المقدّسة قد جاهدت بشجاعة تاريخيّة في صعوبات وضيقات وشدائد وتجارب، وعاشت حياة الصليب والقيامة. لقد قدّمت إلى الكنيسةِ شهداءَ كثيرين وقدّيسين يصعب إحصاء عددهم. وبفضل بطولة أبنائها على مدى ألفيّتين تقام خدمة الأسرار الشريفة غير الدمويّة في هذه البلاد، حيث سلكت أقدام الرسل الجميلة، المبشّرين عبر الأزمان بالحقّ والسلام الذي لا يُسلب، منذ أن أوصاهم المعلّم الحبيب قائلاً لهم "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (مت 28: 19-20).  وأنتم أيضًا دُعيتم إلى الذهاب والتلمذة، إلى أن يتصوّر المسيح في قلوب الجميع، القاضي العادل القائم من الأموات، الذي أبطل الفساد والظلم واللاإنسانيّة والكره والموت، وبالمحبّة ظفر بالجميع.


لذا يتطلّع إلى محبّتكم الأرثوذكسيّون المؤمنون الذين تحت رعايتكم ويتوقّعون منها برجاء صالح، أن تجمعهم كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها. وإليكم تتطلّع من الآن فصاعدًا الكنيسة جمعاء برجاء صالحٍ حتى تقدّموا لكنيسة أنطاكيّة، الأخت الحبيبة في المسيح، معنى العيشة الأخرى ونفحة المـُلكِ الآخر، الذي "ليس من هذا العالم" (يوحنّا 18: 36)، لكي تتغيّر صورتها "لتختبرَ ما هي مشيئة الله، ما هو صالحٌ ومرضيٌّ وكامل" (رومية 12: 2). إليكم يتطلّع الشعب لكي يجد المعنى الأعمق للحياة المسيحيّة، التي هدفها، كما يعلّم القدّيس سارافيم ساروف، هو اقتناء الروح القدس، لا مشاكلةُ حالات غير أخلاقيّة، أكان بالمعنى الضيّق أو الواسع للكلمة، أو تبنّيها، أو حتّى قبول انحرافات كهذه. إليكم يتطلّع جمع المتوحّدين الرهبان، الذي أعطى فلاّح أرضِ سوريّا ولبنان ثمارًا جمّة نيّرةً على مدى العصور، لكي تعتنوا وتنمّوا الوزنة المعطاة التي لا تثمّن، وزنة الحياة الملائكيّة.


رجاؤنا أيّها الأخ الكليّ الكرامة، أن تعظوا شعب الله دون انقطاع بالتوبة، بالعودة إلى المسيح الذي لا يكذب، الذي وحده قادرٌ أن يُخلّصنا من المصاعب، وأن تكرزوا بالصليب القيامة، لكي تنالوا "وعد العهد الجديد أيضًا، الذي كرّسه الرب بالصليب والموت، محطّمًا أبواب الجحيم والخطيئة، ومخرجًا النفوس الأمينة، واضعًا في داخلها المعزّي، ومصعدًا إيّاها إلى ملكه" (القدّيس ماركوس المصري، المرجع المذكور أعلاه).


لذا بكلمات التهنئة وبرجاء وتوقّعات صالحة، نبتهل إلى الروح المعزّي أن يهب غبطتكم العزيزة جدًا محبّةً أبويّةً، وداعةَ الحقّ، عواطف الرأفات، صلاحًا صادقًا، كمال ثماره كافّةً، حتى يكون زمان بطريركيّتكم مليئًا بالبركات والأعمال الصالحة، والحقّ والبرّ، وحتّى يقود إلى خلاص جميع المؤمنين الأرثوذكسيّين في بلادكم، لازدهار الكنيسة ولمجد الله.

وبعد، بمشاعر الفرح والبهجة، نصافح غبطتكم مهنّئين بقبلة الأخوّة والسير سويّة في جهاد خدمة كرم الربّ، مع محبّة فيه عميقةٍ واحترامٍ فائق.



الأخُ المحبُّ في المسيح لغبطتكم الجليلة
برثلماوس بطريرك القسطنطينيّة
في 8 شباط 2013