نحن لا نُحمى بسفن الحرب ولا بسفن التهجير. نحن…

2014-08-21

p1 كلمة البطريرك يوحنا العاشر في صافيتا، 21 آب 2014
 أصحاب السيادة،
الحضور الرسمي الكريم،
إخوتي وأحبتي،
يا أبناء صافيتا وقضائها الطيبين،

المجد لله على كلّ شيء. المجد له لأنه خلق الإنسان من أديم هذه الأرض ونفخ فيه من روحه الإلهي. المجد له لأنه أعطانا فرصة اللقاء بأحبّتنا رغم قساوة الزمن الحاضر.
له المجد لأنه علّمنا أن ننفخ رماد التجارب فنتبين وجهه القدّوس. 
المجد له لأنه علّمنا أن التجارب، على بالغ مرارتها، تصقل معادن الناس وتزيدهم التصاقاً إلى صدر الرب المعزّي. 
له المجد والشكران لأنه أعطانا فرصة لقائكم، هنا في صافيتا، في مشتى المحبة، جارة طرطوس، لؤلؤة أبرشية عكار وعروس ساحل سوريا.

جئتكم اليوم إلى صافيتا لأضيء قلبي شمعة صلاة مع قلوبكم، وأطلب من مار مخاييل وقزما وداميانوس شفيع أن يكونوا العين الساهرة على هذه الروابي الجميلة التي تتزين أولاً بنفوسكم الطيّبة، وترفع ببخّوركم الصلاة إلى ساكن السماء. 
جئتكم ناقلاً إليكم محبّة كنيسة أنطاكية الأرثوذكسية بكلّ بقعةٍ من بقاعها. 
جئتكم لرغبتي أن أكون إلى جانب كلّ محزونٍ، وإلى جانب القلوب التي يعتصرها الألم البشري. 
جئتكم لأقول إن بطريرككم يتقوّى أيضاً بصلاة كلّ منكم، وأنّه منكم وفيكم أبداً.

آتيكم اليوم دامغاً بالفعل ما قاله السلف الراحل المثلث الرحمة البطريرك إغناطيوس يوم افتقد شعبنا في هذه المنطقة في أيار 1982 ، وأقتبس منه هذه الكلمات التي تعكس صداها إلى الآن جدران كنائسنا هذه وآذان مؤمنينا، يومها قال البطريرك إغناطيوس: " أنتم هياكل الله الحيّة! الكنيسة هي أنتم. والكنيسة هي كلّ واحدٍ منكم. الكنيسة في قلب كلّ واحد منكم، وهي ليست في مكانٍ ما مهما تراكمت الحجارة ومهما اتسعت الأبنية. فاذكروا أن الرّب لم يبن بناية واحدة... عندما صممت أن آتي إلى هذه البقعة المقدّسة وسائر بقاعنا، فإني قصدت أن أواجه الكنيسة الحيّة، قصدت ألا تكون الكنيسة الأرثوذكسية كلمة فارغة، قصدت ألا تكون كلمة الشعب المؤمن كلمةً مطلقةً في الهواء بل واقعاً... لقياكم هي الغاية من رحلتي. تقولون هذا يغنيكم ويقويكم، أترك لكم أن تقولوه، ولكني أؤكّد لكم أن لقياكم تقوّيني وأن لقياكم تغنيني".  

رحم الله البطريرك إغناطيوس الذي نقول له من هذه الكنيسة: "إن الكرمة التي افتقدتها في ذلك الزمان في صافيتا، نزورها اليوم ونغتني بها ونتقوّى بغيرة أبنائها ومحبّتهم".

يطيب لي وأنا أرى هذه الوجوه الطيّبة أن أذكر بشكل خاص أبرشية عكار بشخص راعيها أخي المطران باسيليوس والإخوة الأساقفة المساعدين أثناسيوس وديمتريوس وإيليا. 

ومن جديد أقولها لك أيها الأخ الحبيب، لكن هذه المرة من صافيتا، فيك، يا سيدنا باسيليوس، نرى شموخ برج صافيتا ورحابة سهل عكار، ومعك نصلّي ومع الإخوة الأساقفة أثناسيوس وديمتريوس وإيليا، كيّ يَرسخ كلُّ أخ لنا في أبرشية عكار بقسميها السوري واللبناني في أرضه رسوخ برج صافيتا، وأن يكون صدر مؤمنينا رحباً، كما كان دوماً ويبقى، لاستقبال من جارت عليهم الأيام الحاضرة في سوريا وفي كلّ مكان. 

كما يطيب لي أيضاً، أن أتذكّر معكم، ذلك الوجه الملائكي، سيّدنا بولس بندلي ملاك عكار الذي رحل عنّا، لكن ذكراه في قلوبنا. 

ومن هذه البقعة بالتحديد أبعث بالسلام القلبي والبركة الرسولية إلى كلّ أبناء أبرشية عكار في لبنان وسوريا.

لفتني ويلفتني دائماً في كلّ خدمةٍ إلهية، يا أحبة، أن الكاهن يبخّر أولاً المائدة المقدّسة والمذبح والأيقونوسطاس والأيقونات، ومن ثم كلّ واحدٍ من الشعب. 
وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أننا في كنيستنا الأرثوذكسية مدعوون أن نكون عائلة قدّيسين، وأن القدّاسة التي ينفح طهرها من أديم هذه الأرض هي ليست بغريبةٍ عنا. 

imageLL

هذه القداسة تبتدئ من العائلة التي هي الكنيسة الصغيرة. " كونوا قدّيسين كما أن أباكم قدّوس". 

هذا ليس مجرد كلام نظري، بل هو موجه لكل واحد منّا. 

وهو يقول لكلّ منّا، إن الكنيسة هي مشتل قيمٍ ومحبةٍ متبادلة بين أعضائها ومع جيرتها. وهي أبعد ما تكون عن الفئوية. والكنيسة تبني بمنطق إنجيلها الوطن والإنسان.

نحن لا نهوى الكلام في السياسة، إذ نتركه لأهله. لكننا نريد أن يخرج كلامنا كالنار عندما يتعلّق الأمر بمستقبل أولادنا وأطفالنا وبحال هذا الوطن. نحن هنا لنقول ونعيد الصرخة من جديد. 

سوريا غصن زيتون ولن ييبس زيتون سلامها. 
سوريا أذان تسامح وأجراس محبّة، ولغة التكفير والإرهاب والخطف غريبة عن واقعها. 
سوريا الدولة الواحدة لن تقتلعها أشباه دويلات تقوم على أرضها. 
سوريا مدعوة بمنطق المصالحة ووقف تدخّل الخارج إلى الخروج من أزمتها بالحوار والحل السياسي السلمي.

كفانا قتلاً وتهجيراً وامتطاءً لشعارات رنّانة، واستيراداً لهمجيةٍ لم نعرف لها مثيلاً. 
خُطف المطارنة والكهنة وهجر الملايين والعالم يتغنّى بحقوق الإنسان. 

نحن نريد أن تحترم حقوق الإنسان في كلّ بقاع الدنيا، ولكننا نرفض أن تجير هذه الحقوق وتمتطى للتدخل في الأوطان ولتعكير صفو أمنها. 

وإن خطف المطرانين يوحنا وبولس والكهنة وقتل رجال الدين والسكوت عن كلّ هذا، لهو لطخة عار في جبين المتشدّقين بحقوق الإنسان زوراً وبهتاناً.

لنا الحق أن نتوق إلى أيام سلامنا وأماننا في سوريا. 
ولنا الحق أن نقول للدنيا أن سوريا، وريثةَ أوغاريت وحاضنة تدمر وأم أنطاكية، صدّرت للدنيا ثقافة التلاقي، وتلاقح الحضارات وأعطت للعالم الحرف الأول.

نقول للمجتمع الدولي ولكل ذوي القرار في هذا العالم، كفى تكفيراً وإرهاباً وتزييفاً لحقائق الأمور.

كفى تصديراً لهمجياتٍ وامتطاء للشعارات. 
كفانا تصريحات مزّيفة تدعو لاستقبال المسيحيين. 
إن خير ما يفعله العالم لخير المسيحيين والمسلمين هو نشر ثقافة الحوار في مشرقنا، ومحو ثقافة السيف. 

إن قطرة دم إنسانٍ بريء تراق هي أقدس من كلّ شعارات الدنيا. 

اقطعوا عن بلادنا يد الإرهاب وأوقفوا سيل السلاح وردوا سفنكم إلى موانئها. 

نحن لا نُحمى بسفن الحرب ولا بسفن التهجير. 
نحن نُحمى بغرس السلام في ربوعنا. 
نحن مغروسون هنا منذ ألفي عام.
هنا ولدنا، وهنا عشنا ونعيش، وهنا نموت. 

نقولها رغم مرارة ألمنا وغصّات قلوبنا، وبكلّ فخرٍ وإيمان وثقة بالله: "فيْءُ زيتوننا أكثر دفءً من مواقد الغربة."

قد يسأل الكثيرون منكم ومنّا، ونحن بشرٌ يا إخوتي عن مستقبل هذا البلد وعن مصير إنسانه.
أقولها برجاء كبير بالله وباعتمادٍ على سواعد الخيرين فيه: " سوريا ستبقى وستقوم رغم هول العاصف. هذا هو الرجاء القائم فينا".

أحيّيكم في الرّب يسوع الذي جمعنا اليوم مصفّاً واحداً. 
أحيّي أبناء هذه المنطقة الحاضرين والغائبين، وأبناءها الموجودين في بلاد الانتشار.
ومن هنا أسمح لنفسي بأن أرسل باسمكم سلاماً أخوياً لكلّ أبنائنا في كلّ بقاع العالم. 
كما يطيب لي أن أتوجّه بشكري العميق لكل من تعب لتلتقي الرعية في عرسها الكنسي الوطني هذا. 

الشكر لكم سيادة الأخ الجليل باسيليوس والأخ الأسقف ديمتريوس. 

باسمي وباسم الوفد المرافق لي، أتوجّه بالشكر أيضاً إلى أبناء صافيتا وقضائها وإلى هذا الشعب الطيب. وأشكر بشكل خاص كلّ الهيئات الرسمية والجهّات الأمنية التي سهرت وتسهر. 
كما أشكر الكشّاف والجوقات التي أعطت للمناسبة رونقاً خاصاً.

وأختم كلامي متوجّهاً إلى أبنائنا في سوريا بشكل خاص وأقول: نحن مدعوون أن نجبل بالرجاء، وأن نحوز إلى جانب رجائنا إيماناً بالله واتّكالاً عليه وعلى قوتنا به.
وأسمح لنفسي أن أتلو على مسامعكم هذه الكلمات القليلة التي خطّتها يراع أحد كتّاب هذا المشرق وذلك قبل حوالي مائة سنة من الآن، وهي ما اعتدنا أن نسمّيها أيام السفربرلك، في الوقت الذي كانت فيه سوريا والمشرق كلّه يعتصر ألماً وموتاً وجوعاً وقهراً من سطوة تلك الأيام.
أتلوه على مسامعكم، ناقلاً إياه بتصرفٍ، لتروا أي تصميم وإيمانٍ وأيّة قوةٍ كانت لأجدادنا وأيّة محبّة حازوا تجاه ديارهم رغم شظف أيامها:

"إن الأمم كالشجر تنبت وتنمو وتتعالى ثم تبلغ مبلغها فتعطي ثماراً جيدة ورديئة، ثم تمرّ عليها السنون فتشيخ وتجف جذوعها وفروعها، ثم تمرّ بها العواصف فتنيخها إلى الحضيض وتدثرها بأوراق الخريف وثلوج الشتاء. 

وأمّا سوريا فكرمةٌ قد نمت قدماً أمام وجه الشمس، وأعطت عنباً لذيذاً تمجّدت بطعمه الحضارات وعَتْقاً سحرياً شربته الإنسانية فانتشت ولم تصح بعد من نشوة حضارتها.
واليوم وبعد أن ديس بعض سياجها، يمر عابر الطريق فيجدها قد أورقت ثانية واهتزّت قضبانها مرتعشة بمرور نُسيمات الفجر".

وهنا نتوجّه إلى سيادة الرئيس د. بشار الأسد، رئيس الجمهورية العربية السورية، ونقول له:

نقول لسيادتكم من ههنا، من برج صافيتا:

إن الفجر في سوريا دائمٌ، بقوّة إيمان أبنائها بالله، وبوجود شموسها وبصمود قيادتها وجيشها وشعبها، ومنهم هذه الوجوه الطيّبة التي تضع رجاءها بالله، وتستمّد مواطن القوة من محياه القدّوس، له المجد والرفعة إلى الأبد، آمين.