المخلّص الفادي


الله طبيعته ثالوثيّة وهو إله واحدٌ في ثلاثة أقانيم:

الآب هو الله، الابن (الكلمة) هو الله، والروح القدس هو الله. 
 الابن مولود من الآب وليس مخلوقًا، أي لم تكن لحظة في الزمن كان الآب فيها موجودًا من دون الابن والروح القدس.
 الروح القدس منبثق من الآب وليس مخلوقًا، أي لم تكن لحظة في الزمن كان الآب فيها موجودًا من دون الروح القدس والابن.

فليس إذًا من تراتبيّة في الزمن بينهم، وليس من فرق في الطبيعة الإلهيّة بينهم، كما لهم المشيئة الإلهيّة الواحدة.

في الميلاد رأينا الله الكلمة الذي صار لحمًا ودمًا أخذًا الطبيعة البشريّة الكاملة مثلنا تمامًا، لهذا نقول أنّه "تجسّد".

هذا التجسّد صار في أحشاء والدة الإله العذراء مريم في اللحظة الأولى التي بشّرها فيها الملاك جبرائيل، والتي فيها قبلت بملء حريّتها مشيئة الله الثالوثيّة بصيّرورة الله إنسانًا.

في الميلاد رأيناه مولودًا، أي طفلًا من لحمٍ ودم، فكان ظهور الله لنا علانيّةً: "وبالاجماع عظيم هو سر التقوى:الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، اُومن به في العالم، رُفع في المجد" (١ تيموتاوس ١٦:٣).

فإن كان عيد البشارة هو عيد التجسّد الإلهيّ الذي تم فيه اتّحاد الطبيعة الإلهيّة بالطبيعة البشريّة، فعيد الميلاد هو عيد ظهور الله في الجسد.

ومع تجسّده لم يفقد شيئًا ممّا له، أي لم يفقد ألوهيّته،من هنا الرّب يسوع المسيح هو إله كامل وإنسان كامل،وله طبيعتان كاملتان ومشيئتان كاملتان إلهيّة وإنسانيّة دون أن تلغي الواحدة الأخرى.

يكتب بولس الرسول:"الإنسان الأوّل من الأرض ترابي. الإنسان الثاني الرّب من السماء" (١كور ٤٧:١٥).

الرّب كان واضحًا في كلامه عن نفسه: "قد نزلت من السماء" (يوحنا ٣٨:٦)، وأيضًا، قال القدّيس يوحنا المعمدان لتلاميذه عن الرّب يسوع: "الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع" (يوحنا ٣١:٣).

كذلك قال الربّ لليهود:"أنتم من أسفل، أمّا أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أمّا أنا فلست من هذا العالم" (يوحنا ٢٣:٨).

وهذا تمامًا ما قاله الرب يسوع المسيح لنيقوديمس:"ليس أحد صعد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنا ١٣:٣).

وأخذ هذا الإعلان مجده في محاكمة الرّب يسوع أمام رئيس الكهنة:"فسأله رئيس الكهنة أيضًا: «أانت المسيح ابن المبارك؟» فقال يسوع: «أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوّة وأتيًًا في سحاب السماء» (يوحنا ٦٢:١٤-٦٤).

كيف نفهم هذا السر العظيم؟

نحن بضعفنا البشري وعقلنا المحدود والتحاليل بحسب المفاهيم الدهريّة نستصعب كثيرًا أمر ألوهة الرّب يسوع طارحين الأسئلة التالية:

- هل هذا الطفل المولود هو حقًا الله المتجسّد؟
- هل هذا الصبي المضجع والملفوف في الأقمطة هو المخلّص؟
- هل هذا المحمول على ساعدي والدته يرضع من الثدين لبنًا هو الله القدير؟
- هل هذا الذي يأخذه يوسف ومريم إلى مصر هربًا من هيرودس هو الجبّار؟
- هل هذا الذي يقف في المحاكمة أمام رئيس الكهنة، يُبصق عليه ويُصفع هو الخالق؟
- هل هذا الذي يستهزىء به الجنود ويُجلد ويوضع على رأسه إكليل شوك هو الضابط الكل؟
- هل هذا الذي وقع تحت ثقل صليبه وهو يجرّه في طريقه إلى الجلجلة هو الفادي المخلّص؟
 - هل هذا المرفوع على الصليب والمطعون في جنبه والذي أسلم روحه مصلوبًا هو رب الأكوان؟

لا مستحيل. هذا غير منطقي، كلّ هذه الأمور مرفوضة في العقل البشري. من هنا كتب بولس الرسول:"ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رّب إلاّ بالروح القدس" (٢كور٣:١١).

ما هي الأجوبة على هذه الأسئلة؟:

- أهي في الاكتشافات التاريخيّة؟ 
- أو هي في البحث في المخطوطات؟ 
- أو هي في القيام في المقارنات والأبحاث؟ 
 - أو هي في انتظار اكتشافات جديدة؟

- أو الجواب يكمن في ما قاله الرّب يسوع لتلاميذه قبل صلبه: "وأمّا المعزّي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلّمكم كلّ شيء، ويذكّركم بكلّ ما قلته لكم" (يو٢٦:١٤). بالتأكيد نعم.

هذا معناه أن الحل هو في الروح القدس. ولكن فعليًا كيف؟

قد يجعلني ضعفي البشري لا أفهم هذه الأمور، وبالتالي أشك في ألوهيّة الرّب يسوع المسيح.

كيف لعقلي أن يتقبّل أن هذا الإنسان الذي مات على الصليب هو في الوقت نفسه الله؟ حقًا شيء عجيب وغريب!!!.

فإذا عدنا إلى خبرة الكنيسة، وتحديدًا خبرة القدّيسين، نجد الحل لهذه المعضلة ألا وهي "الدخول في علاقة مباشرة مع الرّب وجعل الروح القدس يكلّمنا كما كلّمهم".

لنقف ونتحدّث مع الرّب نفسه ونسمح للروح القدس أن يعمل فينا.

هو ينتظر موافقتنا كما انتظر موافقة العذراء مريم لتصبح والدة الإله. تمامًا هكذا، لأن الله محبّة والمحبّة حريّة.

نحن نقول في دستور الإيمان:"أؤمن بإله واحد"، وهذا معناه لا إله غيره. هذه هي أولى الوصايا في العهد القديم، وهذا ما أكّد عليه الأنبياء.

كذلك شرح بولس الرسول في رسائله هذا الأمر بإسهاب شديد: "ليس إله آخر إلّا واحد. لأنّه وإن وجد ما يُسمّى آلهة سواء كان في السماء أو على الأرض كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون. لكن لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له. ورّب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به". (اكو ٤:٨-٦)

لنلاحظ جيّدًا، لا يمكن لبولس الرسول أن يقتحم عالم الوثنية التي تعرف تعدديّة الآلهة ويبشّر هو بدوره بتعدديّة جديدة، بل على العكس تمامًا، كان يؤكّد أنّه ليس لنا إلّا إله واحد، وكان يشدّد بهذه الآيّة على أن الآب والابن هما إله واحد".

إذًا الكلام واضح، إلّهنا إله واحد لا شريك له.

الآب والابن والروح القدس إله واحد. وهذا تمامًا ما يشهد به يوحنّا الإنجيلي تلميذ يسوع الحبيب فيقول:"الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (١يو٧:٥).

الصورة الثالوثيّة - الواحدة ليست غريبة عنّا إطلاقًا، تمامًا مثل النار والنور والحرارة في الشمعة، إذ ثلاثتهم واحد غير منفصلين ولا أسبقية لهم في الزمن من حيث الوجود، أي بمجرّد أن تضاء الشمعة يُصبح عندنا نار ونور وحرارة في الوقت ذاته.

كذلك الله خلقنا على صورته ومثاله أو على صورته كشبهه (تكوين ٢٦:١).

من ضمن مميّزات هذه الصورة وخصائصها أنّنا نحن - جسدنا والروح التي فينا - وكلمتنا واحد، والثلاثة هم واحد.

الله الواحد ناطق بالكلمة وحيٌ بالروح. الكلمة صار جسدًا - لحمًا - (يوحنا ١٤:١). هذا هو سر المسيحيّة كلّها.

فنحن نقول :"في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يوحنا ١:١).

لنلاحظ جيّدًا "كان الكلمة" وليست كانت الكلمة، لأن "الكلمة" في اللغة اليونانيّة التي كُتب فيها إنجيل يوحنا هي "اللوغوس" وتعني المبدأ والفعل والعلّة والمثبَّتة والحجّة التي من ذاتها، وليس مجرّد كلمة عاديّة تكتب على الورق، لذا تُكتب مثلًا باللغة الإنكليزية Word وليس word.

فلنطلب الروح القدس وهو يعلّمنا ويفّهمنا ويرشدنا إلى الحق والحياة الآبديّة لأنّ للرب المولود كلّ المجد، "وليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء، قد أعطي بين الناس، به ينبغي أن نخلص" (أعمال ١٢:٤).